بحث قامت مجلة المؤرخ العربي بنشره في عددها الثاني عشر ــ المجلد الأول من شهر مارس لعام 2004م وهذه المجلة
يصدرها اتحاد المؤرخين العربي بالقاهرة وهي مجلة علمية محكمة تصدر سنوياً تعنى بمجال التاريخ والمؤرخون والأبحاث التاريخية وتقوم بنشر أبحاث كوكبة من المؤرخون في عصرنا الحاضر وتكريمهم ً وقد قامت المجلة بدعوة الأستاذ الدكتور : أحمد بن عمر الزيلعي لتكريمة والإستفادة من أبحاثه في مجال الآثار والتاريخ وهو الباحاث المعروف الذي يعمل حالياً بقسـم الآثار ـ كلية السياحة والآثار ـ جامعة الملك سعود ـ الرياض وله عدة كتب في مجال الآثار والتاريخ غنية عن التعريف وقد تم نشر بحثه هذا في عددها الثاني عشر كما ذكرت في شهر مارس لعام 2004م ولأهمية البحث أردت أن أشارككم به وهو مدعم بالصور فجزاه الله خير الجزاء عنا واطال في عمره وسدد خطاه وإليكم البحث وهو مدعم بالصور :
بحث بعنوان
بنو الزيلعي العقيليون
(أصحاب اللحية) وانتشارهم في تهامة
اليمن وجنوب غرب المملكة العربية السعودية
للأستاذ الدكتور : أحمد بن عمر الزيلعي
العدد الثاني عشر ــ المجلد الأول
مارس 2004م
مـديـنـة اللـحـيــة
الموقع والتاريخ
اللحية (تصغير لحية) مدينة ساحلية تقع إلى الشمال من الحديدة بمسافة 120كم ، وهي من الموانئ المعروفة في أقصى الشمال الغربي للجمهورية اليمنية ، وتعد من مغاصات اللؤلؤ الشهيرة في شرقي البحر الأحمر ، وإلى الشرق منها سلسلة جبال الملح الممتدة من الصليف وجبل القمة وغيرها ، ومن هذه السلسلة يستخرج معدن الملح الحجري الذي تشتهر به تهامة اليمن . وإليـها يصـب وادي مـور المشـهـور والمعروف باسم : ميزاب تهامة الأعظم ، ولا يضاهيه في العظم إلا وادي بيش في منطقة جازان بجنوب غرب المملكة العربية السعودية . واللحية مدينة غير مسورة ، ولكنها محاطة بآكام مرتفعة عليها أثنتا عشر قلعة من بناء الأتراك العثمانيين ، بين كل قلعة وأخرى حوالي من 200 إلى 250م ولكل منها باب مرتفع يصعد إليه سلالم ، بعضها متحرك . وهي في الوقت الحاضر مديرية تتبع لواء الحديدة ويتبعها من المراكز الإدارية وادي مور ، والزعلية، والبعجية ، ويربطها بالطريق الرئيسي الواصل بين المملكة العربية السعودية واليمن عبر تهامة ــ طريق فرعي طوله ستون كيلو متراً يتجه إلهيا غرباً من مفرق المعرس الواقع على بعد 86 كم شمال شرق مدينة الزيدية . وهذه الأخيرة مدينة تهامية معروفة تقع على وادي سردد إلى الشمال الشرقي من مدينة الحديدة بمسافة 650 كم ويجتازها الطريق الواصل إلى الحديدة من منفذ الطوال الحدودي بالمملكة العربية السعودية.
كانت اللحية منذ مطلع العصور الحديثة من الموانئ الرئيسية في شمال اليمن على البحر الأحمر ، وكانت معبراً للقوات العثمانية القادمة إليها من الحجاز . تلك القوات التي سببت لمدينة اللحية معاناة طويلة لا تقل عن معاناتها من حروب أخرى طويلة سنأتي إلى ذكرها بعد .
وقد زارت اللحية البعثة الملكية الدنمركية في عام 1763م / 1176هـ فوصلتها في 30 ديسمبر 1762م / 1176هـ واستقبلت فيها استقبالاً كريما اثر في نفس كرستن نيبور العضو الوحيد من أعضائها الذي بقي حياً وكتب عنها فيما بعد، لقد طابت لأعضاء الفريق فيهان والتنقل بين أرجائها والاختلاط بسكانها الذين تقبلوا هؤلاء الوافدين الغرباء وأكرموهم وقدموا لهم مختلف التسهيلات، وقد وصف نيبور اللحية وصفاً دقيقاً عرض فيه لموقع اللحية، وتحصيناتها الدفاعية، وطبيعة مينائها ، وتأثره برياح الشتاء والصيف التي تتحكم بدرجة كبيرة في عمق غاطسة وحالته تبعاً لحركتي المد والجزر، وعرض نيبور كذلك لوصف بيوت اللحية، ومواد البناء المستخدمة فيها ، كما عرض لمواردها المائية المتمثلة في عدة آبار تقع خارج المدينة اللحية، والآخر صورة أو رسم لمينائها من جهة البحر.
ومثل ما عانت اللحية من غزوات العثمانيين على اليمن عانت كذلك من الحروب التي اجتاحت المنطقة في النصف الأول من القرن الماضي، فقد قصفتها مدافع الأسطول الإيطالي من البحر في سنة 1912م ــ1329هـ خلال الحرب الإيطالية التركية.
وبعد حوالي ست سنوات أي في سنة 1918م / 1337هـ تعرضت اللحية للضرب من قبل الأسطول البريطاني بوصفها أخر المواقع البحرية اليمنية التي ظلت بأيدي الأتراك العثمانيين في اليمن خلال الحرب العالمية الأولى، وتعرضت في الوقت نفسه لغزو بري من قبل القوات الإدريسية المتحالفة مع الإنجليز إلى أن أسلمت قيادتها للقوات الغازية من البحر ثم من البر، وقد أثرت هذه الحرب خصوصاً البحرية على الكتلة العمرانية لمدينة اللحية ولا تزال آثار تلك الحروب على مساكن المدينة ومرافقها العامة بادية حتى اليوم كما سيأتي.
تلت هذه الحروب حروب أخرى اصطلت بها اللحية ومنها حرب الإمام يحيى مع الأدارسة بـين عامي 1343- 1344/1925- 1926م ثم حربه مع الملك عبدالعـزيـز فـي عـام 1352/1973م، تلك الحرب التي انتهت بتوقيع معاهدة الطائف بين الملك عبد العزيز والإمام يحيى حميد الدين في 6 صفر عام 1353هـ/1934م، وبموجب تلك المعاهدة انسحبت القوات السعودية من تهامة اليمن بما فيها مدينة اللحية التي انتقلت تبعتها من المملكة العربية السعودية إلى اليمن.
مشيخة اللحية وعمران المدينة
تجمع المصادر والمراجع المتاحة على أن عمران مدينة اللحية يرجع إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي حينما استوطنها الفقيه الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي الذي شهدت المدينة في زمانه إقبالاً كبيراً من تلاميذه ومريديه، وأصبحت من أكثر المدن ازدهاراً في وادي مور، ومن أفضلها اتساعاً حتى وفاته في عام 704هـ/1304-1305م، كما سيأتي ، ثم تطور عمران المدينة وازدهارها في عهود ذريته الذين تعاقبوا على مشيخة اللحية حتى وقت ليس ببعيد.
تلقى الشيخ الزيلعي في صغره القراءة والفقه على يد الشيخ حسان (صاحب الحرور) المعروفة في بلاد الطرف من أعمال مديرية بُرع بمحافظة الحديد، ثم قرأ كتب الغزالي، وبرع في علم السلوك (التصوف) بعد ذلك انتقل إلى اللحية، وبنى بها مصلى لا يزال موضعه معروف في مؤخرة مسجده بالركن الغربي لجامعه الكبير المعروف حالياً باللحية، ثم انتقل بعد ذلك على قرية المحمول، إحدى قرى وادي مور على الساحل المحالب بالقرب من اللحية، وبنى بها مقدمة مسجده الجامع (وهو بنا عجيب لم ير مثله في الناحية) على رأي المؤرخ اليمني ابن الأهدل، ولهذا يعرف الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي في معظم الكتب التي عرضت لسيرته بصاحب اللحية والمحمول.
وترجم للزيلعي كثيرون من مؤرخي اليمن الذين عرضوا لسيرته، ومنهم الجندي( ت حوالي 730هـ/1329-1330م) الذي نعته بالفقيه الصالح ويصفه بأنه كان (كبير القدر) شهير الذكر معروفا بالعلم والعمل، صاحب كرمات ومكاشفات ، وبمثل هذه النعوت التي يطلقها الجندي على الفقيه الزيلعي تبعه مؤرخ يمني آخر هو الحزرجي ت 812هـ/1409م) والظاهر انه ينقل عن سابقه بالحرف، أما ابن الأهدل ( ت885/1480م فيفرد لترجمة الزيلعي حيزاً واسعاً في كتابه: علماء اليمن، حينما ينعته بالفقيه الصالح العلامة، وبأنه ((كان مشهوراً بالعمل والورع والزهد والعبادة والكرمات)) ثم يتحدث عن بعض كرماته، وعن نفوذه الروحي وعن مسجده في اللحية، وزاويته بالمحمول، ويذكر أنه كان يطعم مائة فقير منهم ستون في اللحية، وأربعون في المحمول، ممن ترجم للشيخ الزيلعي من مؤرخي اليمن أبو العباس الشرجي (ت 893هـ/1488م) في كتابه: طبقات الخواص، وعنه يقول : ((هو أبو العباس أحمد بن عمر الزيلعي عقيلي منسوب إلى عقيل بن أبي طالب، أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهم قرشيون هاشميون أولاد عمنا عقيل بن أبي طالب الذي قال فيها النبي صلى الله علية وسلم وهل ترك لنا عقيل من دار؟)) .ثم يتحدث الوشلي عن علمه وصلاحه وعلو قدره، كما تحدث عنه وعن نسبه وذريته، وفضلهم في رسالة أخرى له عنوانها : ((إرهاف السيف الصقيل في فضل بني عقيل))، أما محمد بن أحمد العقيلي فيتناول سيرة الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي بمثل ما يتناولها سابقوه من الثناء عليه، وعلى عمله، وصلاحه ، وزهده ويقول عنه : ((إنه من العباد المتقين الذين تزيد الكاتبون في سيرتهم، وغلوا في شخصياتهم والغلو ضلال مبين)) .
وممن عرض لترجمة الفقيه أحمد بن عمر الزيلعي من الكتاب المحدثين أحمد بن علي الراجحي العقيلي في كتابه: ((العقيليون في المخلاف السليماني وتهامة))، وهو كتاب جامع لبني عقيل بمن فيه الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي وذريته، وقد فصل في نسب الشيخ وترجمة حياته وانتشار ذريته في اليمن وخارجها، وكتابه هذا من المراجع الأساسية المهمة لهذا البحث، وممن ترجم للزيلعي من الكتاب المحدثين كذلك زين رشيد الشافعي حيث عرض لنسب الشيخ وحياته في اللحية والمحمول، ولبعض من ذريته خصوصاً من هم منهم في جازان ومحافظة القنفذة. أما على بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين فقد أورد في كتابه : الأغصان لمشجرات أنساب قحطان وعدنان جداول قيمة لذرية الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي. وآخر من عرض من الكتاب المحدثين لذكر الشيخ الزيلعي وأورد سلسلة نسبه وترجم لبعض أحفاده ــ عاتق بن غيث البلادي في كتاب له بعنوان: ((بين مكة واليمن ــ رحلات ومشاهدات)) .
يتضح مما سبق أن الفقيه الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي كان من عباد الله الصالحين وأنه كان له مريدون كثيرون في زمانه، وان مدينة اللحية شهدت في عصره نموا وازدهاراً خولها لأن تكون من أكثر المدن ازدهاراً في تلك الناحية أما عن صلاح الشيخ الزيلعي وتمرسه في العبادة فخير ما نسجله عنه هنا شهادة مؤرخ كان قريباً جداً من عصره هو الجندي المؤرخ اليمني المعروف الذي يذكر أنه قدم عليه في الجند أحد الفقهاء الملازمين للشيخ الزيلعي فسأله عن سيرته في العبادة ، فقال عن الشيخ الزيلعي (رحمه الله) : ((كان يخرج في الثلث الأخير من الليل إلى المسجد فلا يزال مصلياً تالياً للقرآن حتى الفجر، فيركع ثم يصلي الفرض، ثم يشتغل بالذكر حتى تطلع الشمس، ثم يركع الضحى، ثم يقبل على أصحابه فيعظم ويتكلم معهم بالحكمة حتى يرتفع النهار ثم يقوم إلى البيت فيدعوا الناس للغداء فلا يزالون يتغدون فوجاً فوجاً إلى الزوال ثم يتوضأ ويخرج إلى المسجد فيصلي التحية حين يدخله ، فإذا ثبت عنده الزوال صلى الظهر بعد الأذان والسنة، ثم يشتغل بالذكر والتلاوة حتى يصلي العصر، ثم يقبل على الناس يعظهم ويرشدهم ساعة، ثم يدخل داره، ويستدعي الناس فيعشيهم إلى الغروب ثم يدخل المسجد فيصلي المغرب، ثم يمكث حتى يغيب الشفق فيصلي العشاء ويمكث في المسجد إلى الثلث الأول،ثم يدخل داره فهذا دأبه مدة حتى توفي)) .
وقد تواتر ذكر هذه القصة عند كثير من المؤرخين اليمنيين الذين جاؤوا بعد الجندي، ونقلوا عنه، كما نقلوا عنه كثيراً من كرامات الشيخ الزيلعي ومكاشفاته، تجدر الملاحظة إلى أن هؤلاء المؤرخين الذين تناولوا سيرته ونسبوا إليه مثل هذه الكرامات والمكاشفات التي لا تكون لأحد من البشر مهما بلغ من التقوى والصلاح ــ كانوا ينطلقون من روح عصرهم وتقاليد زمانهم الذي كانت تسوده بعض الغيبيات التي لم يعد يتقبلها عصرنا هذا، وقد اعرضنا عن ذكرها في هذا البحث لكونها من الشركيات المنافية للعقيدة الخالصة لله وحده. ولا نملك إلا أن نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة من كل قول أو عمل يؤدي على الشرك به جلت قدرته ووحدانيته، كما نسأله المغفرة والرحمة للشيخ الزيلعي مما قد يكون لحقه من غلو المغالين، وجهل الجاهلين الذين اعتقدوا فيه والعياذ بالله اعتقاداً باطلاً كما اعتقدوا في آخرين غيره من صلحاء اليمن الذين وصلت إلينا أخبارهم وسير حياتهم (رحمهم الله جميعاً وغفر لهم).
وقد امتد النفوذ الروحي للشيخ الزيلعي من وادي مور في شمال اليمن إلى وادي خلب في جنوب غرب المملكة العربية السعودية حالياً، وكان له تلاميذه ومصاحبون أخيار تعلموا القرآن والفقه على يديه،واستفادوا من حلقاته التي كان يعقدها في مسجده الجامع ومنهم : الفقيه عمر بن السكدول العبسي، والفقيه سميل النزاري، والفقيه إبراهيم الشامي والفقيه أحمد الأدبغ، والفقيه سالم من أهل السالمية، وأحمد بن يعقوب البحر من بني العجيل بقرية الحادث، والفقيه محمد بن مهنا (والد عبدالله المقدم المعروف). وتأثر به كثيرون من أهل وادي خلب خاصة منهم بنو ايوب، وبنو الاعوص، وبنو العجمي، وبنو السيقل وغيرهم، وللشيخ الزيلعي عدد من المؤلفات أشهرها: ثمرة الحقيقة ومرشد السالك إلى الطريقة، ونزهة الجليس، وكتاب الوادع، وله فتاوى على مسائل كان يقول فيها: الجواب عند علماء الشريعة كذا، وعند علماء الظاهر كذا وعند الباطن كذا.
توفي الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي ــ كما قدمنا ــ في عام 704هـ/1304-1305م، عن نيف وسبعين سنة، ودفن باللحية بجوار مسجده الجامع من الناحية الشمالية الغربية، وقبره هناك يوصف بالبركة وبكثرة الزوار الذين يأتون من أماكن بعيدة حاملين معهم أصناف الطعام والسمن والبخور والنقد على حد قول المؤرخين الذين تناولوا سيرته ومنهم الأهدل الذي يستشهد على قوله بهذه الأبيات :
وكم ترى من وافد للزيلعي ===== مـن كـل فـج ومكـان شاسع
بالنـقـد والتـمر والطعـام ===== والسمـن والبخـور والأنعام
إذ دعوا قالوا بحق الزيلعي ===== وحلفهم كذلك لا والزيلعي
وهذا الكلام إن كان قد وقع من بعض الجهال، فهو شرك عظيم إذ لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى، وكذلك النذور التي أشارت عليها المصادر لا تجوز لغير الله وحده، وما كان منها لسواه فهي باطلة، ولعل ما كان يحمل إلى قبر الشيخ الزيلعي أو إلى زاويته ومسجده الجامع من طعام ومن نقود وخلاف ذلك إنما يقع في باب الصدقة على الفقراء المقيمين هناك وكذلك على طلاب العلم ، وعلى القائمين بأمور الجامع سواء من أبناء الزيلعي أو من سواهم من أهل تلك الناحية.
ذرية الشيخ الزيلعي ومن آلت إلية المشيخة منهم
توفي الشيخ الزيلعي (رحمه الله) عن أربعة عشر ولداً ذكراً جميعاً ــ كما تصفهم المصادر ــ أبناء أخيار أهل علم وتقى وعبادة وزهاده ولا يخلو موضعهم من قائم يعرف بالخير، ويشار إليه بالتقى والصلاح مقتفين في ذلك أثر والدهم، ومحافظين على تراثه ، ومن أشهرهم العباس، وبه يكنى والده، ثم إبراهيم، وأبوبكر وعمر، وعلي ، وعيسى، ومحمد وعثمان، وموسى، وعبدالقادر، وعبدالغفار، وعبد الأول، وقادري والمقبول. وللزيلعي أعقاب من أحد عشر من أبنائه في حدود ما وصل إلينا وهم : إبراهيم ويشتهر بالمناجي . و أبوبكر . و عمر .
و علي . و عيسى . و موسى . وعبدالقادر . و عبدالغفار .
و عبدالله . و إبراهيم المقبول . و عبدالرحمن وانتشرت ذريتهم على مدى القرون بين اليمن ومنطقة جازان بما في ذلك جزر فرسان، ثم في منطقة عسير، ومحافظة القنفذة بمنطقة مكة المكرمة، وبصورة خاصة في أودية حلي ويبة وقنونا، ثم في مكة نفسها، ومحافظة جدة، ومنطقة المدينة المنورة، واختلف انتساب هؤلاء من مكان إلى آخر، فمنهم من حافظ على نسبة جدهم الأبعد، وهو عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه ، فيقال لهم (العقيليون) وهؤلاء يكثرون في منطقة جازان.
ومنهم من حافظ على نسبة الجد الأقرب، وهو أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي، فيقال لهم (بنو الزيلعي) وآل الزيلعي، وهؤلاء كثر في اليمن وفي المملكة العربية السعودية، وبصورة خاصة في منطقة جازان ومحافظة القنفذة ومنطقة المدينة المنورة، ومنهم من انتسب إلى الفقيه ، فيقال لهم (الفقهاء) والواحد منهم (فقيه) ومن أبرزهم فقهاء حلي وفقهاء قوز أبي العير بمحافظة القنفذة وفقهاء مملح ببلاد بن شهر بمنطقة عسير ومنهم من انتسب إلى المشيخة فيقال لهم (الشيوخ) والنسبة لواحدهم (الشيخ) وهؤلاء يكثرون في اليمن، وفي جدة ومنطقة المدينة المنورة وهناك فئات أخرى من عقب الشيخ الزيلعي اشتهر كل منها بنسبة خاصة بها، خلاف ما ذكر ومن هؤلاء آل عثمان، والرواجحة والحراملة والمتاحمة .
أما مشيخة اللحية وتوابعها بعد وفاة الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي فقد آلت إلى ابنه أبي بكر بن أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي، وكان وجيهاً عظيم القدر ، مكرماً عند الناس حتى قيل بأنه استوهب من بعض القبائل نحو أربعة عشر قتيلاً فوهبوها له قبل أن ينزل عن دابته، فلما توفي خلفه في المشيخة أبن أخيه محمد بن عيسى بن أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي فظل فيها حتى وفاته في عام 788هـ/1384م، فخلفه ابنه أبو بكر بن محمد بن عيسى المعروف بصاحب الخال حتى وفاته في عام 829هـ/1426م، وهكذا ظل عقب محمد بن عيسى هذا هم المتوارثون لمشيخة اللحية وتوابعها حتى عصر الناس هذا .
التراث العمراني لمدينة اللحية
حينما عزمت على إعداد هذا البحث وضعت في اعتباري إفراد جامع الشيخ الزيلعي وكذلك الكتلة العمرانية القديمة المجاورة له بجزئية خاصة تركز على دراستها دراسة أثرية معمارية، إلا أن الزميل الدكتور عبد الرحمن حسن الجار الله عضو هيئة التدريس بقسم الآثار ــ جامعة صنعاء الذي التقيته في الندوة العالمية لتاريخ الجزيرة العربي المنعقدة في جامعة الملك سعود بالرياض في الفـترة من 10-12 شعبان1424هـ الموافق6-8 اكتوبر2003م اخبرني انه أجرى مسحاً معمارياً لمدينة الحية القديمة وأنه في سبيله إلى إعداد دراسة مفصلة عن عمران اللحية بما فيها الشيخ الزيلعي، فعدلت عن الفكرة مفسحاً له المجال، ومؤملاً أن تكون دراسته أكثر تخصصاُ وشمولية للتاريخ العمراني لمدينة اللحية مما كنت سأفعل فالدكتور جار الله ابن اليمن، وقريب الدار للحية، وأعرف بها وبدروبها وبثقافة أهلها مني، وسأكتفي هنا فقط بإيراد صورة وصفية ظاهرية عجلى عن التراث العمراني للحية، وبصورة خاصة الحي القديم وجامع الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي المتصل به من الجنوب الشرقي.
وقبل الدخول في هذه الصورة الظاهرية العجلى لعمران اللحية تجدر الإشارة إلى أن المواد الخام المستخدمة في مساكن اللحية تتوزع بين الحجر الجبلي المقدود من التلال الجبلية القريبة، ومن الطوب الأحمر، وهو قليل جداً مقارنة بذلك الذي يستخدم في مساكن زبيد وبيت الفقيه على سبيل المثال، والحجر البجري المقدود من الشعاب المرجانية التي تنمو في البحر وهو الأكثر شيوعاً في مساكن اللحية،وميزته أنه خفيف الوزن سهل التشكيل والاستخدام، وبه تبني الأقواس والعقود والثريات والدخلات غير النافذة، ومنه تستخرج النورة بعد حرقه في محارق خارج البلدة، وهي تستخدم مع كسر الأحجار الصغيرة بين المداميك لربط البناء ، وكذلك في اللياسة، وتبييض المنازل بلون البياض الغالب على منازل اللحية ذات البناء التقليدي الموروث، وهناك قسم رابع للمواد المستخدمة في البناء التقليدي في اللحية هو القش المستخدم في بناء العشاش (مفرد عشة) وهي مساكن شعبية دائرية الشكل أو مربعة تبنى بالأعواد والجريد والأخشاب المتخذة في الغالب من شجر الأثل، وتكسى من الخارج بطبقة من نبات المرخ، أو الحلفاء، أو القصبى أو الضرم (الثمام) وتكسى من الداخل بطبقة من فضلات البقر المكسورة ــ بعد جفافها ــ بطبقة أخرى من الطين الأصفر المحلوب من الأطيان الزراعية المتوافرة في بطون الأودية ثم تبيض من الداخل بالجص أو النورة، وهذا النوع من المساكن ينتشر في أطراف مدينة اللحية أو في القرى القريبة منها.
ويهمنا من عمران اللحية ذلك الجزء القديم الذي يقع بجوار جامع الشيخ الزيلعي من الغرب الشمال الغربي، وهذا اشرنا إلى أنه تضرر كثيراً من المدفعية البريطانية التي دكَّت المدينة من البحر على التوالي في سنتي 1912م / 1329هـ ، 1918م / 1337هـ ولم يبق منه إلا خرائب بعضها أكوام من الحجارة، وبعضها جدران متهدمة لا تزال بقاياها شاخصة حتى زيارتي الأخيرة للمدينة في 23 رجب عام 1424هـ/21سبتمبر2003م وتتكون منازل اللحية في الغالب من دور واحد أو دورين، ويغلب على المنازل ذات الدور الواحد طراز (المربعة) المنتشرة على طول مدن الساحل الشرقي للبحر الأحمر في كل من ميدي وجازان والقنفذة إلى الوجه في شمال غرب المملكة العربية السعودية.
وتتكون المربعة ــ كما هو الحال في مدينة القنفذة التي لا تزال صورة المربعة فيها حاضرة في ذهني ــ من غرفة واحدة كبيرة يتسع صدرها لأربعة أو خمسة أسرة خشبية من النوع السائد في تهامة ، ولها بابان نافذان على فناء فسيح ، وباب ثالث ينفذ على غرفة صغيرة ملحقة بالمربعة تسمى الخزانة ، ويلحق بالمربعة ملاحق أخرى أكبرها المجلس الذي لا تقل مساحته على مساحة المربعة في الغالب وتزين المربعة من الداخل بمختلف زخارف البناء من عقود وثريات ونحوها ، وكذلك أبوابها يُعنى بصناعتها وزخرفتها على نحو يعطيها شخصيتها المستقلة ، وطابعها التهامي المميز ، ولا تقتصر العناية بالبناء وبزخرفته على المربعات وملحقاتها ، وإنما بالأبنية ذات الطابقين والثلاثة والتي تبنى في الغالب من الأحجار البحرية المقدودة من الشعاب المرجانية ، أو من الجبال القريبة من اللحية ، والتي هي ذات طبيعة مرجانية كذلك .
كما يتضح من الخرائب الباقية فإن أبنية اللحية تُليس من الداخل بالنورة ، أو الجص ، ويدخل الجص أحياناً في تشكيل عقود الزينة التي تصدر بعض منازل اللحية الفارهة . أما أرضيات المباني فكانت تبلط بطبقة مرصوفة من الطين، أو بالأسمنت بعد شيوع استخدامه في البناء في فترات لاحقة.
جامع الشيخ الزيلعي
يقع جامع الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي على ربوة في الجنوب الشرقي من المدينة ، ويطل عليه من الشرق تل جبلي تعلوه أحدى القلاع العثمانية ، وهو من الجوامع الكبيرة في المديرية ، ويتكون من جزئن أمامي وخلفي ، فالجزء الأمامي المجاور للمقبرة من الشرق ، يبدو أنه أحدث من الجزء الخلفي المقبب ، أو أنه هدم وأعيد بناؤه على نحو جعله خالياً من القباب التي تعلو الجزء المكمل له من الجنوب. أما الجزء الخلفي فيكمل الجزء الأمامي من جنوبيه ، ويمتد غرباً إلى مسافة تقترب من طول المسافة المكملة للجزء الأمامي ، ويتكون من رواقين تعلوهما قباب ضحلة تشبه تقريباً تلك القباب العثمانية التي تعلو جامع الأشراف بمدينة أبي عريش منطقة جازان ، وجامع الدبس بالأحساء بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية . ويفضى هذا الرواق من الغرب إلى الزاوية التي كان يتهجد فيها الشيخ الزيلعي ثم إلى بناء رحب تعلوه قبة كبيرة ، ويبدو أن هذا البناء كان مخصصاً للمعلامة أو لمكان الدرس الذي كان الشيخ الزيلعي ومن جاء بعده من أبناءه وحفدته يعقدون فيه حلقات الدروس لطلاب العلم ، وقيل بأن حلقات الدروس كانت تعقد في جانب من الرواقين الغربيين المقببين، وأن القبة الكبيرة المذكورة ما هي إلا قبة ضريحية أنشئت لتكون مدفناً لصاحبها فُعدل عن ذلك بعد بنائها ، أما اليوم فتستخدم مغسلة للموتى ، ويتوسط رواق القبلة في تلك الجهة الخارجة عن كتلة الجامع من الغرب ، محراب مقوس تقع دخلته في جدار صغير تعلوه شرفات متقنة الصنع ، وإن كانت في الوقت الحاضر قد سقطت أحدى تلك الشرفات والباقيات بحاجة إلى صيانة ، ويبدو أن هذا الجدار الصغير أقيم فقط من أجل بناء المحراب في وسطه ، لأنه لا يمتد كثيراً إلى شرقي المحراب أو غربيه ، وإنما يصل بين قائمتي أحد العقود في بائكه واحدة من بوائك الرواق . أما باقي البوائك فهي مفتوحة تماماً إلى الناحية الشمالية من تلك الجهة . ولا نعرف على وجه الدقة واليقين وظيفة هذا المحراب ، ولعله كان يستخدم من الرواق الذي يليه ، للصلاة في الأيام القائظة طلباً للهواء البحري الذي يهب من خلال هذا الجزء المفتوح على الرواق ، وعلى المصلين فيه.
ويلحق بالجامع منارة (مئذنة) غير عالية نسبياً تقع في زاويته الشمالية الغربية مما يلي سور المقبرة ، وهي طراز محلي فريد يصعب تصنيفه وإن كنا نميل إلى أنها يمنية الطابع لوجود أشباه كثيرة لها في جوامع اليمن ومساجدها ، والجامع بجميع أقسامه بما فيه المئذنة مكسو باللون الأبيض ، وتتخلله من الداخل زخارف معمارية ، وأشرطة كتابية تتصدر حنايا العقود في كل بائكة من بوائك الرواق المقبب ، وهي كثيرة ، وتتضمن بعض الآيات القرآنية والأدعية المختارة بعناية لتناسب المقام.
وتقع مقبرة الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي (رحمه الله) في محيط الجامع إلى الشمال الغربي منه ، وهي مسورة ، وغير كبيرة في مساحتها ، وليس بها قباب مشرفة ، وإنما هي عبارة عن جدران غير مرتفعة تشبه الأحواض المستطيلة الشكل ، ويقع قبر الشيخ الزيلعي في وسطها ، وليس له مما يميزه عن سائر القبور سوى خشبة مركوزة في وسط القبر ، أما باقي القبور المحيطة بقبر الشيخ الزيلعي فهي ليست كبيرة ويقال أنها لأبيه ، وأمه وزوجاته ، وأبنائه ، ويروي أحمد بن علي العقيلي نقلاً عن إمام الجامع ، أو القيم الذي يقوم عليه ، أنه سأله عن التبرك بقبر الشيخ والنذر عنده هل لا يزال كما كان سابقاً ؟ فأخبره القيم أنه لم يحصل شيء من هذا لا في عهده ، ولا عهد والده الذي كان قيماً للجامع قبله ، ولا شك أن هذا الخبر هو مدعاة للحمد والشكر لله تعالى على بطلان تلك البدع الزائفة.
يتضح مما سبق أن الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي هاشمي النسب طالبي الأصل من ذرية عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه كان من عباد الله الصالحين ، ومن العلماء الذين برزوا في حقل اهتمامه وهو الفقه وعلم التصوف ، وأنه كان له تلامذة ومريدوه تعلموا علي يديه واقتدوا به في علمه وطريقته في العمل والعبادة . وكان للشيخ الزيلعي وجاهة ونفوذ امتد من وادي مور في جمهورية اليمن إلى وادي خلب في المملكة العربية السعودية، كما كان له ذرية أخيار صلحاء ساروا على سنن والدهم، وأقاموا بتراثه العلمي والروحي في اللحية والمحمول، وسائر المناطق التي امتد إليها نفوذ والدهم الروحي ، وظلت مشيخة اللحية وقوامه جامع الشيخ الزيلعي بها في أيديهم حتى اليوم.
كما يتضح ما طرحه الله سبحانه وتعالى من بركة في ذرية الشيخ الزيلعي (رحمه الله) الذين تكاثرت أعدادهم ، وانتشرت ذرياتهم في رقعة جغرافية شملت أجزاء واسعة من اليمن والمملكة العربية السعودية، وبرز منهم علماء أخيار ، وأولياء صالحون تركنوا وتشيدوا أمكنة كثيرة في جزر فرسان وجازان ، وجدة ، والصالحي ، وحلى ، ويبه بمحافظة القنفذة ــ منطقة مكة المكرمة ، وكذلك بمنقطة عسير ، ومنطقة المدينة المنورة.
ويتضح كذلك رجوع عمران اللحية إلى اتخاذها داراً من قبل الشيخ الزيلعي ، ثم ذريته من بعده ، فعلى أيديهم نمت وازدهرت وتطورت حتى غدت من المدن الساحلية المهمة في تهامة ، وإن كانت الحروب والإهمال قد أثرت في عمارتها التي يعم الخراب والدمار أجزاء واسعة منها في وقتنا الحاضر.
المصدر جامعة الملك سعود ــ كلية السياحة ــ قسم الآثار ــ أبحاث الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي على الرابط http://faculty.ksu.edu.sa/15086/DocL.../AllItems.aspx
يصدرها اتحاد المؤرخين العربي بالقاهرة وهي مجلة علمية محكمة تصدر سنوياً تعنى بمجال التاريخ والمؤرخون والأبحاث التاريخية وتقوم بنشر أبحاث كوكبة من المؤرخون في عصرنا الحاضر وتكريمهم ً وقد قامت المجلة بدعوة الأستاذ الدكتور : أحمد بن عمر الزيلعي لتكريمة والإستفادة من أبحاثه في مجال الآثار والتاريخ وهو الباحاث المعروف الذي يعمل حالياً بقسـم الآثار ـ كلية السياحة والآثار ـ جامعة الملك سعود ـ الرياض وله عدة كتب في مجال الآثار والتاريخ غنية عن التعريف وقد تم نشر بحثه هذا في عددها الثاني عشر كما ذكرت في شهر مارس لعام 2004م ولأهمية البحث أردت أن أشارككم به وهو مدعم بالصور فجزاه الله خير الجزاء عنا واطال في عمره وسدد خطاه وإليكم البحث وهو مدعم بالصور :
بحث بعنوان
بنو الزيلعي العقيليون
(أصحاب اللحية) وانتشارهم في تهامة
اليمن وجنوب غرب المملكة العربية السعودية
للأستاذ الدكتور : أحمد بن عمر الزيلعي
العدد الثاني عشر ــ المجلد الأول
مارس 2004م
مـديـنـة اللـحـيــة
الموقع والتاريخ
اللحية (تصغير لحية) مدينة ساحلية تقع إلى الشمال من الحديدة بمسافة 120كم ، وهي من الموانئ المعروفة في أقصى الشمال الغربي للجمهورية اليمنية ، وتعد من مغاصات اللؤلؤ الشهيرة في شرقي البحر الأحمر ، وإلى الشرق منها سلسلة جبال الملح الممتدة من الصليف وجبل القمة وغيرها ، ومن هذه السلسلة يستخرج معدن الملح الحجري الذي تشتهر به تهامة اليمن . وإليـها يصـب وادي مـور المشـهـور والمعروف باسم : ميزاب تهامة الأعظم ، ولا يضاهيه في العظم إلا وادي بيش في منطقة جازان بجنوب غرب المملكة العربية السعودية . واللحية مدينة غير مسورة ، ولكنها محاطة بآكام مرتفعة عليها أثنتا عشر قلعة من بناء الأتراك العثمانيين ، بين كل قلعة وأخرى حوالي من 200 إلى 250م ولكل منها باب مرتفع يصعد إليه سلالم ، بعضها متحرك . وهي في الوقت الحاضر مديرية تتبع لواء الحديدة ويتبعها من المراكز الإدارية وادي مور ، والزعلية، والبعجية ، ويربطها بالطريق الرئيسي الواصل بين المملكة العربية السعودية واليمن عبر تهامة ــ طريق فرعي طوله ستون كيلو متراً يتجه إلهيا غرباً من مفرق المعرس الواقع على بعد 86 كم شمال شرق مدينة الزيدية . وهذه الأخيرة مدينة تهامية معروفة تقع على وادي سردد إلى الشمال الشرقي من مدينة الحديدة بمسافة 650 كم ويجتازها الطريق الواصل إلى الحديدة من منفذ الطوال الحدودي بالمملكة العربية السعودية.
كانت اللحية منذ مطلع العصور الحديثة من الموانئ الرئيسية في شمال اليمن على البحر الأحمر ، وكانت معبراً للقوات العثمانية القادمة إليها من الحجاز . تلك القوات التي سببت لمدينة اللحية معاناة طويلة لا تقل عن معاناتها من حروب أخرى طويلة سنأتي إلى ذكرها بعد .
وقد زارت اللحية البعثة الملكية الدنمركية في عام 1763م / 1176هـ فوصلتها في 30 ديسمبر 1762م / 1176هـ واستقبلت فيها استقبالاً كريما اثر في نفس كرستن نيبور العضو الوحيد من أعضائها الذي بقي حياً وكتب عنها فيما بعد، لقد طابت لأعضاء الفريق فيهان والتنقل بين أرجائها والاختلاط بسكانها الذين تقبلوا هؤلاء الوافدين الغرباء وأكرموهم وقدموا لهم مختلف التسهيلات، وقد وصف نيبور اللحية وصفاً دقيقاً عرض فيه لموقع اللحية، وتحصيناتها الدفاعية، وطبيعة مينائها ، وتأثره برياح الشتاء والصيف التي تتحكم بدرجة كبيرة في عمق غاطسة وحالته تبعاً لحركتي المد والجزر، وعرض نيبور كذلك لوصف بيوت اللحية، ومواد البناء المستخدمة فيها ، كما عرض لمواردها المائية المتمثلة في عدة آبار تقع خارج المدينة اللحية، والآخر صورة أو رسم لمينائها من جهة البحر.
ومثل ما عانت اللحية من غزوات العثمانيين على اليمن عانت كذلك من الحروب التي اجتاحت المنطقة في النصف الأول من القرن الماضي، فقد قصفتها مدافع الأسطول الإيطالي من البحر في سنة 1912م ــ1329هـ خلال الحرب الإيطالية التركية.
وبعد حوالي ست سنوات أي في سنة 1918م / 1337هـ تعرضت اللحية للضرب من قبل الأسطول البريطاني بوصفها أخر المواقع البحرية اليمنية التي ظلت بأيدي الأتراك العثمانيين في اليمن خلال الحرب العالمية الأولى، وتعرضت في الوقت نفسه لغزو بري من قبل القوات الإدريسية المتحالفة مع الإنجليز إلى أن أسلمت قيادتها للقوات الغازية من البحر ثم من البر، وقد أثرت هذه الحرب خصوصاً البحرية على الكتلة العمرانية لمدينة اللحية ولا تزال آثار تلك الحروب على مساكن المدينة ومرافقها العامة بادية حتى اليوم كما سيأتي.
تلت هذه الحروب حروب أخرى اصطلت بها اللحية ومنها حرب الإمام يحيى مع الأدارسة بـين عامي 1343- 1344/1925- 1926م ثم حربه مع الملك عبدالعـزيـز فـي عـام 1352/1973م، تلك الحرب التي انتهت بتوقيع معاهدة الطائف بين الملك عبد العزيز والإمام يحيى حميد الدين في 6 صفر عام 1353هـ/1934م، وبموجب تلك المعاهدة انسحبت القوات السعودية من تهامة اليمن بما فيها مدينة اللحية التي انتقلت تبعتها من المملكة العربية السعودية إلى اليمن.
مشيخة اللحية وعمران المدينة
تجمع المصادر والمراجع المتاحة على أن عمران مدينة اللحية يرجع إلى النصف الثاني من القرن السابع الهجري الثالث عشر الميلادي حينما استوطنها الفقيه الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي الذي شهدت المدينة في زمانه إقبالاً كبيراً من تلاميذه ومريديه، وأصبحت من أكثر المدن ازدهاراً في وادي مور، ومن أفضلها اتساعاً حتى وفاته في عام 704هـ/1304-1305م، كما سيأتي ، ثم تطور عمران المدينة وازدهارها في عهود ذريته الذين تعاقبوا على مشيخة اللحية حتى وقت ليس ببعيد.
تلقى الشيخ الزيلعي في صغره القراءة والفقه على يد الشيخ حسان (صاحب الحرور) المعروفة في بلاد الطرف من أعمال مديرية بُرع بمحافظة الحديد، ثم قرأ كتب الغزالي، وبرع في علم السلوك (التصوف) بعد ذلك انتقل إلى اللحية، وبنى بها مصلى لا يزال موضعه معروف في مؤخرة مسجده بالركن الغربي لجامعه الكبير المعروف حالياً باللحية، ثم انتقل بعد ذلك على قرية المحمول، إحدى قرى وادي مور على الساحل المحالب بالقرب من اللحية، وبنى بها مقدمة مسجده الجامع (وهو بنا عجيب لم ير مثله في الناحية) على رأي المؤرخ اليمني ابن الأهدل، ولهذا يعرف الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي في معظم الكتب التي عرضت لسيرته بصاحب اللحية والمحمول.
وترجم للزيلعي كثيرون من مؤرخي اليمن الذين عرضوا لسيرته، ومنهم الجندي( ت حوالي 730هـ/1329-1330م) الذي نعته بالفقيه الصالح ويصفه بأنه كان (كبير القدر) شهير الذكر معروفا بالعلم والعمل، صاحب كرمات ومكاشفات ، وبمثل هذه النعوت التي يطلقها الجندي على الفقيه الزيلعي تبعه مؤرخ يمني آخر هو الحزرجي ت 812هـ/1409م) والظاهر انه ينقل عن سابقه بالحرف، أما ابن الأهدل ( ت885/1480م فيفرد لترجمة الزيلعي حيزاً واسعاً في كتابه: علماء اليمن، حينما ينعته بالفقيه الصالح العلامة، وبأنه ((كان مشهوراً بالعمل والورع والزهد والعبادة والكرمات)) ثم يتحدث عن بعض كرماته، وعن نفوذه الروحي وعن مسجده في اللحية، وزاويته بالمحمول، ويذكر أنه كان يطعم مائة فقير منهم ستون في اللحية، وأربعون في المحمول، ممن ترجم للشيخ الزيلعي من مؤرخي اليمن أبو العباس الشرجي (ت 893هـ/1488م) في كتابه: طبقات الخواص، وعنه يقول : ((هو أبو العباس أحمد بن عمر الزيلعي عقيلي منسوب إلى عقيل بن أبي طالب، أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهم قرشيون هاشميون أولاد عمنا عقيل بن أبي طالب الذي قال فيها النبي صلى الله علية وسلم وهل ترك لنا عقيل من دار؟)) .ثم يتحدث الوشلي عن علمه وصلاحه وعلو قدره، كما تحدث عنه وعن نسبه وذريته، وفضلهم في رسالة أخرى له عنوانها : ((إرهاف السيف الصقيل في فضل بني عقيل))، أما محمد بن أحمد العقيلي فيتناول سيرة الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي بمثل ما يتناولها سابقوه من الثناء عليه، وعلى عمله، وصلاحه ، وزهده ويقول عنه : ((إنه من العباد المتقين الذين تزيد الكاتبون في سيرتهم، وغلوا في شخصياتهم والغلو ضلال مبين)) .
وممن عرض لترجمة الفقيه أحمد بن عمر الزيلعي من الكتاب المحدثين أحمد بن علي الراجحي العقيلي في كتابه: ((العقيليون في المخلاف السليماني وتهامة))، وهو كتاب جامع لبني عقيل بمن فيه الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي وذريته، وقد فصل في نسب الشيخ وترجمة حياته وانتشار ذريته في اليمن وخارجها، وكتابه هذا من المراجع الأساسية المهمة لهذا البحث، وممن ترجم للزيلعي من الكتاب المحدثين كذلك زين رشيد الشافعي حيث عرض لنسب الشيخ وحياته في اللحية والمحمول، ولبعض من ذريته خصوصاً من هم منهم في جازان ومحافظة القنفذة. أما على بن عبد الكريم الفضيل شرف الدين فقد أورد في كتابه : الأغصان لمشجرات أنساب قحطان وعدنان جداول قيمة لذرية الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي. وآخر من عرض من الكتاب المحدثين لذكر الشيخ الزيلعي وأورد سلسلة نسبه وترجم لبعض أحفاده ــ عاتق بن غيث البلادي في كتاب له بعنوان: ((بين مكة واليمن ــ رحلات ومشاهدات)) .
يتضح مما سبق أن الفقيه الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي كان من عباد الله الصالحين وأنه كان له مريدون كثيرون في زمانه، وان مدينة اللحية شهدت في عصره نموا وازدهاراً خولها لأن تكون من أكثر المدن ازدهاراً في تلك الناحية أما عن صلاح الشيخ الزيلعي وتمرسه في العبادة فخير ما نسجله عنه هنا شهادة مؤرخ كان قريباً جداً من عصره هو الجندي المؤرخ اليمني المعروف الذي يذكر أنه قدم عليه في الجند أحد الفقهاء الملازمين للشيخ الزيلعي فسأله عن سيرته في العبادة ، فقال عن الشيخ الزيلعي (رحمه الله) : ((كان يخرج في الثلث الأخير من الليل إلى المسجد فلا يزال مصلياً تالياً للقرآن حتى الفجر، فيركع ثم يصلي الفرض، ثم يشتغل بالذكر حتى تطلع الشمس، ثم يركع الضحى، ثم يقبل على أصحابه فيعظم ويتكلم معهم بالحكمة حتى يرتفع النهار ثم يقوم إلى البيت فيدعوا الناس للغداء فلا يزالون يتغدون فوجاً فوجاً إلى الزوال ثم يتوضأ ويخرج إلى المسجد فيصلي التحية حين يدخله ، فإذا ثبت عنده الزوال صلى الظهر بعد الأذان والسنة، ثم يشتغل بالذكر والتلاوة حتى يصلي العصر، ثم يقبل على الناس يعظهم ويرشدهم ساعة، ثم يدخل داره، ويستدعي الناس فيعشيهم إلى الغروب ثم يدخل المسجد فيصلي المغرب، ثم يمكث حتى يغيب الشفق فيصلي العشاء ويمكث في المسجد إلى الثلث الأول،ثم يدخل داره فهذا دأبه مدة حتى توفي)) .
وقد تواتر ذكر هذه القصة عند كثير من المؤرخين اليمنيين الذين جاؤوا بعد الجندي، ونقلوا عنه، كما نقلوا عنه كثيراً من كرامات الشيخ الزيلعي ومكاشفاته، تجدر الملاحظة إلى أن هؤلاء المؤرخين الذين تناولوا سيرته ونسبوا إليه مثل هذه الكرامات والمكاشفات التي لا تكون لأحد من البشر مهما بلغ من التقوى والصلاح ــ كانوا ينطلقون من روح عصرهم وتقاليد زمانهم الذي كانت تسوده بعض الغيبيات التي لم يعد يتقبلها عصرنا هذا، وقد اعرضنا عن ذكرها في هذا البحث لكونها من الشركيات المنافية للعقيدة الخالصة لله وحده. ولا نملك إلا أن نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة من كل قول أو عمل يؤدي على الشرك به جلت قدرته ووحدانيته، كما نسأله المغفرة والرحمة للشيخ الزيلعي مما قد يكون لحقه من غلو المغالين، وجهل الجاهلين الذين اعتقدوا فيه والعياذ بالله اعتقاداً باطلاً كما اعتقدوا في آخرين غيره من صلحاء اليمن الذين وصلت إلينا أخبارهم وسير حياتهم (رحمهم الله جميعاً وغفر لهم).
وقد امتد النفوذ الروحي للشيخ الزيلعي من وادي مور في شمال اليمن إلى وادي خلب في جنوب غرب المملكة العربية السعودية حالياً، وكان له تلاميذه ومصاحبون أخيار تعلموا القرآن والفقه على يديه،واستفادوا من حلقاته التي كان يعقدها في مسجده الجامع ومنهم : الفقيه عمر بن السكدول العبسي، والفقيه سميل النزاري، والفقيه إبراهيم الشامي والفقيه أحمد الأدبغ، والفقيه سالم من أهل السالمية، وأحمد بن يعقوب البحر من بني العجيل بقرية الحادث، والفقيه محمد بن مهنا (والد عبدالله المقدم المعروف). وتأثر به كثيرون من أهل وادي خلب خاصة منهم بنو ايوب، وبنو الاعوص، وبنو العجمي، وبنو السيقل وغيرهم، وللشيخ الزيلعي عدد من المؤلفات أشهرها: ثمرة الحقيقة ومرشد السالك إلى الطريقة، ونزهة الجليس، وكتاب الوادع، وله فتاوى على مسائل كان يقول فيها: الجواب عند علماء الشريعة كذا، وعند علماء الظاهر كذا وعند الباطن كذا.
توفي الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي ــ كما قدمنا ــ في عام 704هـ/1304-1305م، عن نيف وسبعين سنة، ودفن باللحية بجوار مسجده الجامع من الناحية الشمالية الغربية، وقبره هناك يوصف بالبركة وبكثرة الزوار الذين يأتون من أماكن بعيدة حاملين معهم أصناف الطعام والسمن والبخور والنقد على حد قول المؤرخين الذين تناولوا سيرته ومنهم الأهدل الذي يستشهد على قوله بهذه الأبيات :
وكم ترى من وافد للزيلعي ===== مـن كـل فـج ومكـان شاسع
بالنـقـد والتـمر والطعـام ===== والسمـن والبخـور والأنعام
إذ دعوا قالوا بحق الزيلعي ===== وحلفهم كذلك لا والزيلعي
وهذا الكلام إن كان قد وقع من بعض الجهال، فهو شرك عظيم إذ لا يجوز الحلف إلا بالله سبحانه وتعالى، وكذلك النذور التي أشارت عليها المصادر لا تجوز لغير الله وحده، وما كان منها لسواه فهي باطلة، ولعل ما كان يحمل إلى قبر الشيخ الزيلعي أو إلى زاويته ومسجده الجامع من طعام ومن نقود وخلاف ذلك إنما يقع في باب الصدقة على الفقراء المقيمين هناك وكذلك على طلاب العلم ، وعلى القائمين بأمور الجامع سواء من أبناء الزيلعي أو من سواهم من أهل تلك الناحية.
ذرية الشيخ الزيلعي ومن آلت إلية المشيخة منهم
توفي الشيخ الزيلعي (رحمه الله) عن أربعة عشر ولداً ذكراً جميعاً ــ كما تصفهم المصادر ــ أبناء أخيار أهل علم وتقى وعبادة وزهاده ولا يخلو موضعهم من قائم يعرف بالخير، ويشار إليه بالتقى والصلاح مقتفين في ذلك أثر والدهم، ومحافظين على تراثه ، ومن أشهرهم العباس، وبه يكنى والده، ثم إبراهيم، وأبوبكر وعمر، وعلي ، وعيسى، ومحمد وعثمان، وموسى، وعبدالقادر، وعبدالغفار، وعبد الأول، وقادري والمقبول. وللزيلعي أعقاب من أحد عشر من أبنائه في حدود ما وصل إلينا وهم : إبراهيم ويشتهر بالمناجي . و أبوبكر . و عمر .
و علي . و عيسى . و موسى . وعبدالقادر . و عبدالغفار .
و عبدالله . و إبراهيم المقبول . و عبدالرحمن وانتشرت ذريتهم على مدى القرون بين اليمن ومنطقة جازان بما في ذلك جزر فرسان، ثم في منطقة عسير، ومحافظة القنفذة بمنطقة مكة المكرمة، وبصورة خاصة في أودية حلي ويبة وقنونا، ثم في مكة نفسها، ومحافظة جدة، ومنطقة المدينة المنورة، واختلف انتساب هؤلاء من مكان إلى آخر، فمنهم من حافظ على نسبة جدهم الأبعد، وهو عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه ، فيقال لهم (العقيليون) وهؤلاء يكثرون في منطقة جازان.
ومنهم من حافظ على نسبة الجد الأقرب، وهو أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي، فيقال لهم (بنو الزيلعي) وآل الزيلعي، وهؤلاء كثر في اليمن وفي المملكة العربية السعودية، وبصورة خاصة في منطقة جازان ومحافظة القنفذة ومنطقة المدينة المنورة، ومنهم من انتسب إلى الفقيه ، فيقال لهم (الفقهاء) والواحد منهم (فقيه) ومن أبرزهم فقهاء حلي وفقهاء قوز أبي العير بمحافظة القنفذة وفقهاء مملح ببلاد بن شهر بمنطقة عسير ومنهم من انتسب إلى المشيخة فيقال لهم (الشيوخ) والنسبة لواحدهم (الشيخ) وهؤلاء يكثرون في اليمن، وفي جدة ومنطقة المدينة المنورة وهناك فئات أخرى من عقب الشيخ الزيلعي اشتهر كل منها بنسبة خاصة بها، خلاف ما ذكر ومن هؤلاء آل عثمان، والرواجحة والحراملة والمتاحمة .
أما مشيخة اللحية وتوابعها بعد وفاة الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي فقد آلت إلى ابنه أبي بكر بن أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي، وكان وجيهاً عظيم القدر ، مكرماً عند الناس حتى قيل بأنه استوهب من بعض القبائل نحو أربعة عشر قتيلاً فوهبوها له قبل أن ينزل عن دابته، فلما توفي خلفه في المشيخة أبن أخيه محمد بن عيسى بن أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي فظل فيها حتى وفاته في عام 788هـ/1384م، فخلفه ابنه أبو بكر بن محمد بن عيسى المعروف بصاحب الخال حتى وفاته في عام 829هـ/1426م، وهكذا ظل عقب محمد بن عيسى هذا هم المتوارثون لمشيخة اللحية وتوابعها حتى عصر الناس هذا .
التراث العمراني لمدينة اللحية
حينما عزمت على إعداد هذا البحث وضعت في اعتباري إفراد جامع الشيخ الزيلعي وكذلك الكتلة العمرانية القديمة المجاورة له بجزئية خاصة تركز على دراستها دراسة أثرية معمارية، إلا أن الزميل الدكتور عبد الرحمن حسن الجار الله عضو هيئة التدريس بقسم الآثار ــ جامعة صنعاء الذي التقيته في الندوة العالمية لتاريخ الجزيرة العربي المنعقدة في جامعة الملك سعود بالرياض في الفـترة من 10-12 شعبان1424هـ الموافق6-8 اكتوبر2003م اخبرني انه أجرى مسحاً معمارياً لمدينة الحية القديمة وأنه في سبيله إلى إعداد دراسة مفصلة عن عمران اللحية بما فيها الشيخ الزيلعي، فعدلت عن الفكرة مفسحاً له المجال، ومؤملاً أن تكون دراسته أكثر تخصصاُ وشمولية للتاريخ العمراني لمدينة اللحية مما كنت سأفعل فالدكتور جار الله ابن اليمن، وقريب الدار للحية، وأعرف بها وبدروبها وبثقافة أهلها مني، وسأكتفي هنا فقط بإيراد صورة وصفية ظاهرية عجلى عن التراث العمراني للحية، وبصورة خاصة الحي القديم وجامع الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي المتصل به من الجنوب الشرقي.
وقبل الدخول في هذه الصورة الظاهرية العجلى لعمران اللحية تجدر الإشارة إلى أن المواد الخام المستخدمة في مساكن اللحية تتوزع بين الحجر الجبلي المقدود من التلال الجبلية القريبة، ومن الطوب الأحمر، وهو قليل جداً مقارنة بذلك الذي يستخدم في مساكن زبيد وبيت الفقيه على سبيل المثال، والحجر البجري المقدود من الشعاب المرجانية التي تنمو في البحر وهو الأكثر شيوعاً في مساكن اللحية،وميزته أنه خفيف الوزن سهل التشكيل والاستخدام، وبه تبني الأقواس والعقود والثريات والدخلات غير النافذة، ومنه تستخرج النورة بعد حرقه في محارق خارج البلدة، وهي تستخدم مع كسر الأحجار الصغيرة بين المداميك لربط البناء ، وكذلك في اللياسة، وتبييض المنازل بلون البياض الغالب على منازل اللحية ذات البناء التقليدي الموروث، وهناك قسم رابع للمواد المستخدمة في البناء التقليدي في اللحية هو القش المستخدم في بناء العشاش (مفرد عشة) وهي مساكن شعبية دائرية الشكل أو مربعة تبنى بالأعواد والجريد والأخشاب المتخذة في الغالب من شجر الأثل، وتكسى من الخارج بطبقة من نبات المرخ، أو الحلفاء، أو القصبى أو الضرم (الثمام) وتكسى من الداخل بطبقة من فضلات البقر المكسورة ــ بعد جفافها ــ بطبقة أخرى من الطين الأصفر المحلوب من الأطيان الزراعية المتوافرة في بطون الأودية ثم تبيض من الداخل بالجص أو النورة، وهذا النوع من المساكن ينتشر في أطراف مدينة اللحية أو في القرى القريبة منها.
ويهمنا من عمران اللحية ذلك الجزء القديم الذي يقع بجوار جامع الشيخ الزيلعي من الغرب الشمال الغربي، وهذا اشرنا إلى أنه تضرر كثيراً من المدفعية البريطانية التي دكَّت المدينة من البحر على التوالي في سنتي 1912م / 1329هـ ، 1918م / 1337هـ ولم يبق منه إلا خرائب بعضها أكوام من الحجارة، وبعضها جدران متهدمة لا تزال بقاياها شاخصة حتى زيارتي الأخيرة للمدينة في 23 رجب عام 1424هـ/21سبتمبر2003م وتتكون منازل اللحية في الغالب من دور واحد أو دورين، ويغلب على المنازل ذات الدور الواحد طراز (المربعة) المنتشرة على طول مدن الساحل الشرقي للبحر الأحمر في كل من ميدي وجازان والقنفذة إلى الوجه في شمال غرب المملكة العربية السعودية.
وتتكون المربعة ــ كما هو الحال في مدينة القنفذة التي لا تزال صورة المربعة فيها حاضرة في ذهني ــ من غرفة واحدة كبيرة يتسع صدرها لأربعة أو خمسة أسرة خشبية من النوع السائد في تهامة ، ولها بابان نافذان على فناء فسيح ، وباب ثالث ينفذ على غرفة صغيرة ملحقة بالمربعة تسمى الخزانة ، ويلحق بالمربعة ملاحق أخرى أكبرها المجلس الذي لا تقل مساحته على مساحة المربعة في الغالب وتزين المربعة من الداخل بمختلف زخارف البناء من عقود وثريات ونحوها ، وكذلك أبوابها يُعنى بصناعتها وزخرفتها على نحو يعطيها شخصيتها المستقلة ، وطابعها التهامي المميز ، ولا تقتصر العناية بالبناء وبزخرفته على المربعات وملحقاتها ، وإنما بالأبنية ذات الطابقين والثلاثة والتي تبنى في الغالب من الأحجار البحرية المقدودة من الشعاب المرجانية ، أو من الجبال القريبة من اللحية ، والتي هي ذات طبيعة مرجانية كذلك .
كما يتضح من الخرائب الباقية فإن أبنية اللحية تُليس من الداخل بالنورة ، أو الجص ، ويدخل الجص أحياناً في تشكيل عقود الزينة التي تصدر بعض منازل اللحية الفارهة . أما أرضيات المباني فكانت تبلط بطبقة مرصوفة من الطين، أو بالأسمنت بعد شيوع استخدامه في البناء في فترات لاحقة.
جامع الشيخ الزيلعي
يقع جامع الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي على ربوة في الجنوب الشرقي من المدينة ، ويطل عليه من الشرق تل جبلي تعلوه أحدى القلاع العثمانية ، وهو من الجوامع الكبيرة في المديرية ، ويتكون من جزئن أمامي وخلفي ، فالجزء الأمامي المجاور للمقبرة من الشرق ، يبدو أنه أحدث من الجزء الخلفي المقبب ، أو أنه هدم وأعيد بناؤه على نحو جعله خالياً من القباب التي تعلو الجزء المكمل له من الجنوب. أما الجزء الخلفي فيكمل الجزء الأمامي من جنوبيه ، ويمتد غرباً إلى مسافة تقترب من طول المسافة المكملة للجزء الأمامي ، ويتكون من رواقين تعلوهما قباب ضحلة تشبه تقريباً تلك القباب العثمانية التي تعلو جامع الأشراف بمدينة أبي عريش منطقة جازان ، وجامع الدبس بالأحساء بالمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية . ويفضى هذا الرواق من الغرب إلى الزاوية التي كان يتهجد فيها الشيخ الزيلعي ثم إلى بناء رحب تعلوه قبة كبيرة ، ويبدو أن هذا البناء كان مخصصاً للمعلامة أو لمكان الدرس الذي كان الشيخ الزيلعي ومن جاء بعده من أبناءه وحفدته يعقدون فيه حلقات الدروس لطلاب العلم ، وقيل بأن حلقات الدروس كانت تعقد في جانب من الرواقين الغربيين المقببين، وأن القبة الكبيرة المذكورة ما هي إلا قبة ضريحية أنشئت لتكون مدفناً لصاحبها فُعدل عن ذلك بعد بنائها ، أما اليوم فتستخدم مغسلة للموتى ، ويتوسط رواق القبلة في تلك الجهة الخارجة عن كتلة الجامع من الغرب ، محراب مقوس تقع دخلته في جدار صغير تعلوه شرفات متقنة الصنع ، وإن كانت في الوقت الحاضر قد سقطت أحدى تلك الشرفات والباقيات بحاجة إلى صيانة ، ويبدو أن هذا الجدار الصغير أقيم فقط من أجل بناء المحراب في وسطه ، لأنه لا يمتد كثيراً إلى شرقي المحراب أو غربيه ، وإنما يصل بين قائمتي أحد العقود في بائكه واحدة من بوائك الرواق . أما باقي البوائك فهي مفتوحة تماماً إلى الناحية الشمالية من تلك الجهة . ولا نعرف على وجه الدقة واليقين وظيفة هذا المحراب ، ولعله كان يستخدم من الرواق الذي يليه ، للصلاة في الأيام القائظة طلباً للهواء البحري الذي يهب من خلال هذا الجزء المفتوح على الرواق ، وعلى المصلين فيه.
ويلحق بالجامع منارة (مئذنة) غير عالية نسبياً تقع في زاويته الشمالية الغربية مما يلي سور المقبرة ، وهي طراز محلي فريد يصعب تصنيفه وإن كنا نميل إلى أنها يمنية الطابع لوجود أشباه كثيرة لها في جوامع اليمن ومساجدها ، والجامع بجميع أقسامه بما فيه المئذنة مكسو باللون الأبيض ، وتتخلله من الداخل زخارف معمارية ، وأشرطة كتابية تتصدر حنايا العقود في كل بائكة من بوائك الرواق المقبب ، وهي كثيرة ، وتتضمن بعض الآيات القرآنية والأدعية المختارة بعناية لتناسب المقام.
وتقع مقبرة الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي (رحمه الله) في محيط الجامع إلى الشمال الغربي منه ، وهي مسورة ، وغير كبيرة في مساحتها ، وليس بها قباب مشرفة ، وإنما هي عبارة عن جدران غير مرتفعة تشبه الأحواض المستطيلة الشكل ، ويقع قبر الشيخ الزيلعي في وسطها ، وليس له مما يميزه عن سائر القبور سوى خشبة مركوزة في وسط القبر ، أما باقي القبور المحيطة بقبر الشيخ الزيلعي فهي ليست كبيرة ويقال أنها لأبيه ، وأمه وزوجاته ، وأبنائه ، ويروي أحمد بن علي العقيلي نقلاً عن إمام الجامع ، أو القيم الذي يقوم عليه ، أنه سأله عن التبرك بقبر الشيخ والنذر عنده هل لا يزال كما كان سابقاً ؟ فأخبره القيم أنه لم يحصل شيء من هذا لا في عهده ، ولا عهد والده الذي كان قيماً للجامع قبله ، ولا شك أن هذا الخبر هو مدعاة للحمد والشكر لله تعالى على بطلان تلك البدع الزائفة.
يتضح مما سبق أن الشيخ أحمد بن عمر الزيلعي العقيلي هاشمي النسب طالبي الأصل من ذرية عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه كان من عباد الله الصالحين ، ومن العلماء الذين برزوا في حقل اهتمامه وهو الفقه وعلم التصوف ، وأنه كان له تلامذة ومريدوه تعلموا علي يديه واقتدوا به في علمه وطريقته في العمل والعبادة . وكان للشيخ الزيلعي وجاهة ونفوذ امتد من وادي مور في جمهورية اليمن إلى وادي خلب في المملكة العربية السعودية، كما كان له ذرية أخيار صلحاء ساروا على سنن والدهم، وأقاموا بتراثه العلمي والروحي في اللحية والمحمول، وسائر المناطق التي امتد إليها نفوذ والدهم الروحي ، وظلت مشيخة اللحية وقوامه جامع الشيخ الزيلعي بها في أيديهم حتى اليوم.
كما يتضح ما طرحه الله سبحانه وتعالى من بركة في ذرية الشيخ الزيلعي (رحمه الله) الذين تكاثرت أعدادهم ، وانتشرت ذرياتهم في رقعة جغرافية شملت أجزاء واسعة من اليمن والمملكة العربية السعودية، وبرز منهم علماء أخيار ، وأولياء صالحون تركنوا وتشيدوا أمكنة كثيرة في جزر فرسان وجازان ، وجدة ، والصالحي ، وحلى ، ويبه بمحافظة القنفذة ــ منطقة مكة المكرمة ، وكذلك بمنقطة عسير ، ومنطقة المدينة المنورة.
ويتضح كذلك رجوع عمران اللحية إلى اتخاذها داراً من قبل الشيخ الزيلعي ، ثم ذريته من بعده ، فعلى أيديهم نمت وازدهرت وتطورت حتى غدت من المدن الساحلية المهمة في تهامة ، وإن كانت الحروب والإهمال قد أثرت في عمارتها التي يعم الخراب والدمار أجزاء واسعة منها في وقتنا الحاضر.
المصدر جامعة الملك سعود ــ كلية السياحة ــ قسم الآثار ــ أبحاث الدكتور أحمد بن عمر الزيلعي على الرابط http://faculty.ksu.edu.sa/15086/DocL.../AllItems.aspx